نقرأ رواية البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "إن عليا خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وَجَعه الذي تُوُفي فيه. فقال الناس: يا أبا حسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا! فأخذ بيده العباسُ بن عبد المطلب، فقال: أنت والله بعد ثلاث عبدُ العصا! وإني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيُتَوفى من وَجَعِه هذا. إني لأعرف وجوهَ بني عبد المطلب عند الموت. فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسألَه فيمن هذا الأمر؟ فإن كانَ فينا علمنا ذلك. وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا. فقال علي: أما والله لئن سألناها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فمنَعَنَاهَا لا يعطيناها الناسُ بعدَه. وإني والله لا أسألُها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ويروي الإمام مسلم حديثا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباسَ أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينـئذ يطلبان أرضه من فَدَكٍ وسهْمَه من خَيْـبَر. فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نُورَث، ما تركنا صدقة". الحديث. وفي رواية منه أن فاطمة هجرت أبا بكر فلم تكلمه في ذلك الأمر حتى ماتت. ويمضي الحديث قائلا: "فقال رجل للزُّهْرِيِّ: فلم يـبايعه (أي أبا بكر) عليّ ستة أشْهُرٍ؟" فقال: لا والله! ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي.
فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه (بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها)، ضرع إلى مصالحة أبي بكر". ويخطب الإمام علي بمحضر أبي بكر وبني هاشم في بيت الإمام عليّ فيقول بعد أن حَمِدَ الله وأثنى عليه: "أما بعد، فلم يمنعنا أن نبايِعَكَ يا أبا بكر إنكارٌ لفضيلتك، ولا نَفاسَةٌ عليك بخيرٍ ساقه الله إليك. ولكن كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا. فاستبددتم علينا. ثم ذكر قرابتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم. فلم يزل عليّ يُذَكِّرُهُ حتى بكى أبو بكر".
وبعد خطبة أبي بكر يعتذر فيها عن حبسه الميراثَ لحديثٍ سمعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتواعدون للبـيعة عشيَّةً. قال مسلم: "فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس يَعْذِر عليا (عن تأخره في البـيعة) عن بعض ما اعتذر به. ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته. ثم قام إلى أبي بكر فبايعه. فأقبل الناس على علي فقالوا: أصبت وأحسنت! وكان المسلمون إلى علي قريـباً حين راجع الأمْرَ بالمعروف".
هذان الخبران ناطقان بما فيه الكفاية. وإنما أوردناهما لأنهما أصلان في النصوص بين أيدينا. وبين أيدي إخوتنا الشيعة نصوص تماثلها، شكلت الأساس العلميّ الذي بُنيَتْ عليه مذاهب الشيعة في الحكم والخلافة والإمامة.
كان الإمام عليٌّ كرم الله وجهه قِمَّةً سامِقةً، فَحْلا من الرجال بكل معاني الفحولة. بسيفه انـتصر الإسلام، وبعلمه استـنار المسلمون طيلة عهود الخلافة الراشدة. وقد ورد في فضائله وتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ما يجعله أهلا للأسبقية. مع قرابته القريـبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم الأمة لآل البيت.
روى الترمذي عن زيد بن أرْقَم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه". وهو حديث صحيح. وروى الشيخان والترمذي واللفظ لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت مني بمنـزلة هرون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي".
وعند إخوتنا الشيعة نصوص موثقة لديهم، يفهمون منها أن هذا الحديث وأمثاله وصيةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة من بعده لعلي. ولديهم قصة غَدِيرِ خُم، أوصى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي، ينكرها أهل الحديث عندنا. وقد رأينا في خبر البخاري ومسلم أن آل البيت كانوا يظنون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع وجود البَضْعَة النبوية سيدةِ النساء فاطمة رضي الله عنها، أن الأمر لهم.
فلما قُتل الإمام عثمان وافترق الصحابة بين قاعد عن علي كرم الله وجهه وبين مناصر له مُظاهر، وقع الصدعُ الخطير في الأمة، وساعدت ظروف الفتـنة والحروب بين المسلمين على احتداد الخلاف واستفحاله. وظهر الإمام عليّ كرم الله وجهه وسط ذلك الظلام شمسا لامعة بالهدى، وجبلا راسخا وسط الزعازع، وقائدا عديم المثال. فغالى بعضهم فيه فعبده. وآخرون-وهم الخوارج- قاطعوه وكفّروه وحاربوه. وطائفة بني أمية سبوه على المنابر.
فتأججت الأحقاد، وتوقدت غَيرة مُحبي آل البيت، ما زادت المِحَنُ التاريخية غيرَتهم إلا اشتعالا. لا سيما بعد استشهاد الإمام الحسين، أسد كربلاء وفخر الأمة، عليه السلام. وهكذا تكوَّن مذهب التشيع الذي يرى أن أمر الأمة والوِلاية عليها والخلافة فيها حقٌّ لآل البيت، لعلي وَوَرَثتِه الأئمة الأطهار عليهم السلام. يوصي بذلك الإمام لوارثه كما أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليٍّ كرم الله وجهه. هكذا يعتقدون.
لا حاجة بنا للتعرض لفرق الشيعة وغُلاة التشيع من الروافض والباطنية. فلئن كانوا في تاريخ الأمة آفةً ووَبالا ترك آثاراً بليغة لا تزال حية، فإن ما يعنينا لنصب الجسور بـينـنا وبين إخوتـنا الشيعة هو معرفةُ أصول الخلاف لتـتضح لنا معالم مستقبل يعود فيه الصدع إلى الالتـئام إن شاء الله كما يشاء الله ربنا الحكيم العليم. كما لا نـتعرض لأهل النّصْبِ_نعوذ بالله_ ممن اندسوا تحت السنية ليثلُبوا آلَ البيت ويُنقِّصوهم.